رواية كاملة ورائعه بقلم الكاتبة منال سالم
أكثر صدمة عليها تجولت ببصرها على ما يوجد بها فرأت كيف يبدو الأثاث قديما ومستهلكا من كثرة الاستعمال تتناثر الكراكيب بعشوائية عند الأركان ناهيك عن حاجة أرضيتها للتنظيف الشديد. لم تكن مثلما توقعت أبدا! راحت تردد بذهول وعيناها تبرقان بشدة
معقولة دكاترة محترمين زينا يقعدوا في مكان زي كده
جعلتها الصدمة
تتجمد في مكانها للحظات وقد توقف عقلها عن التفكير في حين انبهرت ابتهال بالصالة المتسعة وبدأت تتجول بحماس في محيطها وهي تخبرها
ألجم تعليقها الغريب لسانها لوهلة لكن اندلع الڠضب بها فصړخت مستنكرة
إنتي بتقولي إيه
استغربت ابتهال من تشددها وعقدت حاجبيها في اندهاش وهي تزيد من صياحها الغاضب
ده عاملة زي علبة الكبريت!
ردت ببرود استفزها
هو احنا لينا أكل ولا بحلقة ده احنا مش هندفع مليم يوووه نسيت هي العملة هنا يجيلها بكام
أنا ماقبلش بحاجة أقل من اللي استحقه.
انهت جملتها واندفعت نحو الخارج فتبعتها ابتهال مذهولة وهي تسألها
رايحة فين يا تهاني
حاولت إيقافها عنوة فلكزتها تهاني بعصبية في ذراعها وهي تصرخ بها
حاسبي من طريقي.
تقدمت عنها في خطواتها ثم وقفت قبالتها وسألتها بتخوف
من أولها هتعملي مشاكل كده هيقولوا عننا إيه
ابعدي عن خلقتي السعادي أنا روحي في مناخيري.
تأوهت من الوكزة القوية وتغاضت عن شعورها بالألم اللحظي وهتفت تتوسلها
استهدي بالله بس وآ...
قاطعتها تهاني قبل أن تستأنف وصلة تذللها المستفزة صائحة بإصرار ووجهها يشتعل بحمرته الحانقة
إنتي عاوزة تقعدي في أوضة الفران دي يبقى براحتك لكن أنا لأ!!!
ركزت بصرها على رفيقتها وتابعت
أنا بعد كده هاخدك معايا في أي حاجة.
لم تنطق تهاني بكلمة اكتفت بالاستمتاع بشعور النشوة الذي تغلغل فيها وجعلها تبدو كبطلة خارقة رغم أنها لم تفعل الكثير. تظاهرت بعدم الاكتراث ووضعت هذا القناع الجليدي على ملامحها ثم أمسك بمقبض الحقيبة وسحبتها نحو الغرفة التي اختارتها لتكون خاصة بها فتساءلت ابتهال في تحير
حانت منها نصف التفافة ناحيتها لتعلق برسمية
داخلة أوضتي ولو سمحتي يا ريت ما يكونش في إزعاج أنا عاوزة أرتاح.
زينت ابتهال وجهها ببسمتها المتسعة وردت وهي تشير إليها
حقك طبعا...
بمجرد أن تابعت مشيها وجدتها تكلمها من خلفها بثرثرتها المعتادة
بس عاوزين نلف حوالين المكان عشان نعرفه.
تجاهلتها عن قصد لتلج إلى غرفتها صافقة الباب ورائها پعنف مما جعل ابتهال تنتفض في مكانها. رفعت حاجبها للأعلى ورددت بتجهم طفيف
هي مالها كده
سرعان ما تبدد الضيق من على قسماتها لتتابع محدثة نفسها بابتسامة أشد اتساعا وهي تجلس باسترخاء على الأريكة
يا سلام على الأعدة الملوكي اللي هنا!
أراحت مرفقيها على حافة النافذة واستندت بذقنها عليهما معا لتتطلع بشرود حزين إلى المارة السائرين في الشارع بدت من بعيد كما لو كانت غارقة في دوامة من الهموم والأثقال وحين أتت فردوس وجلست إلى جوارها لم تشعر بوجودها بقيت في انفصالها الواجم عن الواقع لمزيد من الوقت. وضعت ابنتها يدها على كتفها لتنبهها إليها وهي تتساءل باهتمام
مالك يامه سرحانة في إيه
أجابت دون أن تنظر تجاهها
قلبي متوغوش على أختك مكانش لازم نسيبها تسافر نهائي.
مطت فردوس فمها قليلا في غير تأثر ثم غمغمت معقبة وهي تداعب بأناملها جديلة شعرها التي طرحتها على كتفها
ما إنتي عارفة دماغها الحجر مهما عملنا مكوناش هنمنعها عن اللي هي عاوزاه.
تنهدت عقيلة
مليا سائلة نفسها بصوت مسموع أيضا لابنتها
يا ترى عاملة إيه دلوقتي يا كبدي
بنفس الهدوء الواثق أخبرتها
هي ناصحة وهتعرف تتصرف.
المزيد من العبوس القلق حل على تجاعيد وجهها وهي تردد
يا خۏفي من الغربة تغيرها ولا تعمل فيها حاجة.
لاحت بسمة هازئة على زاوية فمها قبل أن تعلق
متقلقيش عليها دي تفوت في الحديد.
غريزتها الأمومية جعلت مشاعرها المرهفة تتضاعف خوفا عليها فهمهمت بلا صوت وهذه النظرة الحزينة تطل من حدقتيها
أنصح منها والشيطان غواهم!
بهدوء شديد انحنت تلتقط آخر قطع ثيابها لتنتهي من ستر جسدها المكشوف ألقت نظرة سريعة على سيدها النائم على الفراش قبل أن تسير على أطراف أصابعها وتقترب من مرآة التسريحة وقفت الخادمة قبالتها تسوي بيدها خصلات شعرها النافرة لتضع بعدئذ حجاب رأسها وهذه الابتسامة الراضية تتراقص على شفتيها فرب عملها يجيد منحها ما تريد من سعادة وسرور وإن كانت هذه المشاعر تدوم لحظيا لكنها في المقابل تتمتع ماديا ومعنويا.
نظرة أخرى دارت بها على معصميها المكدومين ففركتهما تباعا ثم سحبت الكريم المرطب لتدلك به ما بقي من آثار علاقتها الجامحة به. تنهدت بعمق وهي تقاوم ما يعتريها من مشاعر أخذت تتأجج بداخلها فقلما استطاعت مقاومة سحره وتأثيره في استدراجها نحو دوامة أهوائه العاصفة. تأكدت من ضبط هيئتها لئلا تثير الريبة وهي تتسلل خارجة من منزله في هذه الساعة المبكرة. تحركت بحرص نحو جانبه من السرير مالت عليه لتقبله من جبينه ثم سألته في صوت ناعم رقيق
سي مهاب عايز حاجة تانية مني قبل ما أمشي.
بصوت شبه ناعس أجاب ودون أن يفتح عينيه
لأ.
سألته في نفس الصوت الحنون الخاڤت
طب تحب أفضل كمان شوية أشوف مزاجك وطلباتك
حينئذ الټفت بجسده ناحيتها ومد يده ليمسح على وجنتها برقة قبل أن يرفض بلباقة
خليها وقت تاني عشان تلحقي ترجعي.
لاحت ابتسامتها المتدللة على وجهها وقالت وهي تعتدل واقفة
ماشي يا سيدي وسيد الناس.
لوح لها بيده قبل أن يعاود الاستلقاء على جانبه وهو يقول بتثاؤب
سلام يا حلوة.
تحركت الخادمة خارج الغرفة تجاه باب البيت وهناك انتعلت حذائها القديم وهذا الصوت يردد في رأسها
المرة الجاية هابقى أطلب منه جزمة جديدة مش خسارة فيا.
أمسكت بالمقبض وأدارته لتفتح الباب لكنها تجمدت في مكانها مصعوقة عندما رأت شقيقه يقف عند العتبة يطالعها بنظرات احتقارية مشمئزة كان الأخير يعرفها تمام المعرفة فهي إحدى خادمات القصر ممن عملن لمدة قصيرة قبل أن يتركن العمل دون تبرير واليوم عرف السبب فهي متواجدة هنا في هذا المنزل المعزول للقيام بمهام أخرى لا تتضمن أي معايير أخلاقية فيها. نكست الخادمة رأسها في خزي خجل وخرجت من البيت قائلة بصوت مهتز
اتفضل يا بيه.
ظلت تعابيره المتأففة معكوسة على محياه حدجها بنظرة ڼارية وهي تتجاوزه لتمر قبل أن ېهينها بكلمات كانت كالخڼجر في صدرها ابتلعتها مضطرة وهي تهبط على الدرج مجرجرة كرامتها المهانة ورائها. صفق سامي الباب پعنف وهو لا يزال يردد بعصبية
حاجة تقرف.
مسح الصالة غير المرتبة بنظرة بطيئة تظهر نفوره الشديد فهذا البيت أو ما يطلق عليه وكر الملذات هو المكان الدائم لإقامة شقيقه كلما عاد من سفره ورغم تعدد نزواته الطائشة إلا أنه ظل الابن المفضل لدى أبيه تجول على مهل مخاطبا نفسه وسحنته قد انقلبت على الأخير عندما رأى بقايا الطعام متروكة على المائدة بجوار زجاجة للخمړ وأكواب متسخة
طبعا ده المتوقع منك يا مهاب سايب بيت العيلة وقاعد ليل نهار هنا عشان تشوف مزاجك مع الأشكال ... دي!
بخطوات متعصبة سار ناحية غرفته الموجودة في نهاية
الرواق ظلت تعابيره متجهمة وهو يناديه عاليا بما احتوى على إهانة ضمنية
اصحى يا دكتور يا محترم!
دون أن يبدو مباليا بوجوده سحب مهاب الوسادة من أسفل رأسه ووضعها عليها ليقلل من وتيرة الصوت المرتفع الذي يفسد عليه نومه. حاول سامي انتزاعها من أعلاه لائما إياه بحدة
عامل البيت كرخانة ونايم ولا على بالك!!
استلقى مهاب على ظهره وطالعه بنصف عين قبل أن يكلمه ببرود
ليه الزعيق بس يا سامي ماينفعش تتكلم من غير دوشة
وخفض قدميه قائلا وهو يفرك وجهه
إنت جاي تديني محاضرة في الأخلاق على الصبح
احتفظ سامي بطريقته المحتدة في التعامل معه عندما أخبره
لازم أعمل كده طالما إنت مخلي اسم العيلة في الوحل.
وضع مهاب ابتسامة عابثة على ثغره كان واثقا أن مدلولها سيصل إليه دون الحاجة للإيضاح وأضاف بمكر مغيظ وهو ينهض واقفا
لأ اطمن .. كل اللي بيخرج من عندي بيكون مبسوط.
فارق الطول والتأثير بينهما كان ملحوظا فالغلبة كانت ل مهاب وإن كان سامي الأكبر سنا لكن الأول امتاز بسمات السيطرة والتسلط والقدرة على إقناع الآخرين بسلاسة لذا بلا عناء سقط الأخير في فخ استفزازه اشټعل وجهه بحمرته الحانقة ليتبع ذلك لوما شديدا منه ومصحوبا بالټهديد المتواري
ولو بابا عرف تفتكر هيسكت عن المسخرة دي
تمطى شقيقه بذراعيه لينفض الكسل عنه ثم قال
فؤاد باشا مشغول بمشاريعه واستثماراته مش هيركز مع التفاهات دي.
أسلوبه المستهتر وغير المبالي بتبعات رعونته جعله أكثر تحفزا ضده فهدده صراحة عله يرتدع
إنت عارف كويس إنه لو شم خبر مش هيرحمك.
قست تعابير مهاب بشكل مخيف ونظر له قائلا بتحد
وإنت عاوز تقوله اتفضل أنا مش حايشك!!
حاول أن يظهر اهتماما زائفا بشأنه فادعى
أنا عاوز مصلحتك يا مهاب.
من زاويته منحه هذه النظرة المخيفة ليرفع بعدها يده ويضعها على كتفه ضاغطا عليه قليلا بقوة قبل أن يهتف
اطمن أنا سايبلك كل حاجة ومسافر متقلقش من ناحيتي.
بلع ريقه وقال
إنت فاهم غلط.
فهم طبيعة شخصيته المراوغة لم يكن بالأمر العسير عليه بدا كالكتاب المفتوح قبالته يستطيع مطالعة أسطره مهما حاول ادعاء الغموض أو الطيبة. لم يزح مهاب يده من على كتفه بل أبقى أصابعه تضغط عليه بخشونة مؤكدا بهدوء يدب الخۏف في النفس
لأ أنا فاهمك صح إنت عاوز تفضل طول عمرك ابن فؤاد باشا المفضل اللي ماشي تحت طوعه وأنا هسيبلك الساحة ومش هحرمك من ده.
اختبأ سامي وراء عصبية مصطنعة وصاح ملوحا بذراعه بعدما ابتعد عنه شقيقه الأصغر
خليك كده مش عارف مصلحتك فين.
لم ينظر تجاهه ومشى بتؤدة ناحية الحمام وصوته يصيح به
لو خلصت محاضرتك ماتنساش تقفل الباب وراك.
بالكاد كظم سامي غضبه وسحب شهيقا عميق يخنق به الڠضب المندلع في أعماقه فغيرته منه لا تزال كما هي مشټعلة ومتزايدة. طرد الهواء على هيئة زفير بطيء وردد بما بدا شبيها بالوعيد
استحمل يا سامي كلها كام يوم ويمشي وساعتها هتبقى إنت الوريث المنتظر لإمبراطورية الجندي!!!
الفصل الثالث
موعد فلقاء ف ...
رغم تفاوت أعمارهم إلا أن القاعة الدراسية امتلأت بعشرات منهم فجميعهم قد جاءوا وافدين من مختلف الدول لتلقي محاضراتهم بنهم
واهتمام كما راحوا يعملون كالنحل في خليته لتدوين كل ما يملى عليهم من معلومات قيمة ومفيدة لئلا يفوتهم أي مستجد طرأ